تميم البرغوثي | مع تميم - واشنطن

Описание к видео تميم البرغوثي | مع تميم - واشنطن

لمتابعة مع تميم
   / ajplussaha  
تميم البرغوثي | مع تميم - واشنطن


يا أخي كلما نسينا ذكرونا. في أول أيام عملي أستاذا للسياسة في واشنطن، خرجت مع بعض أصدقائي نتمشى، فإذا كل شيء في هذه العاصمة الرخامية ذو معنى مقصود ورسالة موجهة، لقد خطت لتكون مقالا لا مدينة، أراد بانوها أن يشحنوها بالرموز الدالة على عقيدتهم السياسية وما يرونه دورا لبلادهم فى تاريخ البشر.

مركزها مبنى الكونجرس، ويسمونه الكابتول أو الهل، أي التلة، والاسمان مأخوذان من مدينة روما القديمة، فأمريكا فى خيال مؤسسيها هي روما العصر الحديث. وتتفرع منه المدينة أربعة أرباع، بأسماء الجهات الفرعية الأربع، ثلاثة من الأرباع يسكنها السمر، والربع الأخير، وسبحان الله، هو الشمال الغربي، يسكنه البيض.

والكونجرس هو مركز المدينة لأنه المبنى الذي يمثل نظامها السياسي، فهو الجسم الأصيل في الحكومة، ومنه تخرج القوانين التي يطيعها الحاكم والمحكوم، ولذلك ترى الشوارع الكبرى تتفرع منه كأشعة الشمس وكل شارع شعاع يسمى باسم ولاية أمريكية. وحجره أبيض يوحى دائما بالجدة فلا يتغير لونه مع السنين كسائر الأحجار. ولا يجوز في واشنطن أن يعلو مبنى أيا كان على ارتفاع قبة الكونجرس والتمثال القائم عليها، والتمثال لامرأة مسلحة تسمى «الحرية منتصرة».

عن يمين الكونجرس في اتجاه الشمال الغربي، يقع البيت الأبيض، من المتعمد أيضا أن يكون أصغر وأقل فخامة، للتأكيد على تبعية الرئيس وسلطته التنفيذية للكونجرس الممثل لعموم المواطنين. وعلى يسار الكونجرس، مقابل البيت الأبيض، هناك مزار توماس جفرسون، مؤسس النظام السياسي الأمريكي، تاجر العبيد الذى كان ينادى بالمساواة، يقف عملاقا من حجر أسود محاطا بمعبد دائري أبيض قائم على عمد يونانية الطراز.

فعلى يسار الكونجرس الرجل الذي أسس نظام الحكم، جفرسون، وعلى يمينه الرجل الذي يحافظ عليه الآن الرئيس الحالي. أما مزار الرئيس الأمريكي الذى انتصر في الحرب الأهلية وأبقى على اتحاد الولايات التي تكون اليوم أمريكا، أبراهام لينكولن، فيكمل المربع، إذ يقع مقابل الكونجرس تماما، بين مزار جفرسون والبيت الأبيض، فيكون ترتيب زوايا المربع إذا بدأنا من الكونجرس وقرأناها كأنها نص إفرنجي من اليسار إلى اليمين: الكونجرس نقطة الأصل ثم مزار جفرسون، ثم مزار لينكولن، ثم البيت الأبيض: النظام، مؤسسه، منقذه، ورئيسه وكأنه تتابع زمنى أو رواية تاريخية، وتتابعهم من اليسار إلى اليمين يوحى بالتتابع الزمنى لأنه اتجاه الكتابة الانجليزية واتجاه عقارب الساعة.

وفى وسط المربع تقف مسلة ضخمة هي مزار واشنطن صاحب البلد وبانيها، فهو قطب الرحى وعمود الخيمة. وجماعة المباني هذه كلها من الحجر الأبيض الذي يشبه الرخام. كل شيء دقيق، كل شيء محسوب وذو داع ومعنى ونظام، مدينة روحها حادة الزوايا، ودينها من رخام.

مرشوشاً بين هذه الأوتاد الأربعة يجد المرء مزارات للحروب التي خاضتها أمريكا، وأهمها بالطبع الحرب العالمية الثانية التي جعلتها دولة عظمى، والتي أنهتها بتفجيرين نوويين على هدفين مدنيين في آسيا قتلت بهما مائتي ألف نفس واستوت على العرش. ويقع المزار على الخط الواصل ما بين الكونجرس ومزار لينكولن، وهو عبارة عن بركة ماء محاطة بسور كتبت عليه أسماء الولايات الأمريكية، وللسور بوابتان كتب على إحداهما «الأطلسي» وعلى الأخرى «الهادي».

وقد تفضل جورج بوش غازي العراق وأفغانستان بإضافة علمين أمريكيين كبيرين إلى هذا المزار ليذكرا بحرب العراق، وكأنها امتداد للحرب العالمية الثانية، على أساس أنها خيضت لتحافظ الولايات المتحدة على مكانتها كدولة عظمى. وقد نقش على قاعدة كل من العلمين عبارة «لم يأت الأمريكيون غزاة بل محررين».

كنت أسير مع بعض أصدقائي بين تلك المعالم، وأفكر في قتيل يتأمل رونق النصل وهو يحزه حزا، ويجد وقتا ودما ليدقق في صنعة الصيقل. لم أستطع أن أدفع عن خيالي ارتباط الرخام عندنا بالقبور، وأن البياض العارم هناك يقابله خليط من الألوان في سوق بالعراق أو في فلسطين، طين الأرض ودم القتلى وألوان ملابسهم، كل لون له معنى، وكل معنى له لون، إلا الدمع فإنه شفاف ليس له إلا طعم الملوحة، وتعثر الكلام بغصة الحلق.

عدت مع أصدقائي إلى حرم الجامعة، جامعة بنيت عام ألف وسبعمائة وتسعة وثمانين، عام الثورة الفرنسية، أراد بعضنا الجلوس للراحة بعد طول المشي بين الرخام، فأشرت إلى أحد المباني أن فيه أرائك في البهو فدخلنا وجلسنا، وقبل أن نخرج فاجأنا الحرس، قالوا إن المبنى مغلق، وأنهم نسوا أن يغلقوا بابه وطلبوا منا التعجيل بالخروج.

ثم أشار نحوي أحد الحرس، قال أنا أعرفك، أنت أستاذ بمركز الدراسات العربية، قلت نعم، فكلمني بالعربية قائلا، وفي وجهه ود صادق، "أنت تحجى عربي، أنا أفتهم عربي"

فعلمت أن الرجل كان بالعراق مع قوات الاحتلال، ولم يجد له عملا إلا أن يكون حرسيا حين عاد. قلت له متى عدت من العراق، قال منذ ثلاثة اعوام، قلت له، اهنأ بالسلامة، ولا تعد إلى هناك. ابتسم موافقاً لوهلة، ثم ارتبك. لم يدرك أن ذهابه للعراق عدوان علي، ظن أن كلامه بالعربية تودد، ولم يفهم لماذا بدا على وجهي الحزن فلم أقابله بتودد مثيل. دخلنا مبنى لم يكن لنا أن ندخله، فوجدنا من يخرجنا، فكم مبنى لنا دخلته يا حرسي ولم تجد له حارساً يطلب منك الخروج؟

عدت إلى منزلي وأنا أتذكر مثلا شعبيا عن الرخام يقابل ما بين النظافة من الخارج ونقيضها من الداخل، وأتذكر أبياتا لشاعر عربي أسود البشرة خشن اليدين أمه حبشية، عن نعومة ملمس الثعبان. أردت والله ليلة أتمشى فيها وأستريح فتبعوني جميعا، آلاف الجنود وآلاف ألواح الرخام، ذهبوا إلى بلاد الفسيفساء والزليج، هشموها وهشموا أرواحهم وأرواحنا، وعادوا يمشون ورائي.

عدت إلى منزلي وأنا أقول يا حرسي نكد الله على الرخام، فقد جنى الرخام علينا.. وعليك.



#مع_تميم
Tamim Al-Barghouti

لمتابعتنا على
  / ajplusarabi  
  / ajplusarabi  
موقعنا: http://ajplus.net/arabi

Комментарии

Информация по комментариям в разработке